فصل: فَصْلٌ فِي الْمُتَفَرِّقَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.بَاب الْمُضَارِبُ يُضَارِبُ مَعَ آخَرَ:

بَابٌ يُقْرَأُ بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ (الْمُضَارِبُ يُضَارِبُ) مَعَ آخَرَ، مُضَارَبَةُ الْمُضَارِبِ مُرَكَّبَةٌ فَلِهَذَا أَخَّرَهَا عَنْ الْمُفْرَدِ (فَإِنْ ضَارَبَ الْمُضَارِبُ) أَيْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً (بِلَا إذْنٍ) مِنْ رَبِّ الْمَالِ (فَلَا ضَمَانَ) عَلَى الْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ (مَا لَمْ يَعْمَلْ) الْمُضَارِبُ (الثَّانِي) فِي الْمَالِ فَإِذَا عَمِلَ ضَمِنَ الدَّافِعُ رِبْحَ الثَّانِي أَوَّلًا (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) عَنْ الْإِمَامِ (وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ الْإِمَامِ لَا يَضْمَنُ بِالْعَمَلِ أَيْضًا مَا لَمْ يَرْبَحْ) أَيْ الثَّانِي.
وَقَالَ زُفَرُ: يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ، تَصَرَّفَ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِلَا أَمْرٍ فَيَضْمَنُ وَلَنَا أَنَّهُ كَالْإِيدَاعِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ بِنَفْسِهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ فَيُقَامُ سَبَبُ حُصُولِ الرِّبْحِ مَقَامَ حَقِيقَةِ حُصُولِهِ فِي صَيْرُورَةِ الْمَالِ مَضْمُونًا بِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ صَحِيحَةً (وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةً فَلَا ضَمَانَ) عَلَى الْأَوَّلِ.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (رَبِحَ) الثَّانِي لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُضَارَبَةُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا شَرَطَا لَهُ (وَحَيْثُ ضَمِنَ) أَيْ حَيْثُ لَزِمَ الضَّمَانُ بِعَمَلِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِالرِّبْحِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ (فَلِرَبِّ الْمَالِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ) بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا (فِي الْمَشْهُورِ) مِنْ الرِّوَايَةِ، أَيْ: خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ رَأْسَ مَالِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ لِقَبْضِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ الرِّبْحَ وَلَا يُضَمِّنَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ وَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ كَالْمُودَعِ، وَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ، وَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَيَطِيبُ لِلثَّانِي مَا رَبِحَ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ وَلَا خَبَثَ فِي الْعَمَلِ، وَلَا يَطِيبُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَلَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ خَبَثٍ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ (وَقِيلَ عَلَى الْخِلَافِ فِي إيدَاعِ الْمُودَعِ) أَيْ يُضَمَّنُ الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَلَا يُضَمَّنُ الثَّانِي عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا يُضَمَّنُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودَعِ الْمُودَعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يُضَمَّنُ وَعِنْدَهُمَا يَتَخَيَّرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِلْإِمَامِ أَنَّ مُودَعَ الْمُودَعِ كَانَ يَقْبِضُهُ لِنَفْعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، أَمَّا الْمُضَارِبُ الثَّانِي فَيَعْمَلُ فِيهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا.
(وَإِنْ أَذِنَ) رَبُّ الْمَالِ (لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ بِالدَّفْعِ إلَى آخَرَ (بِالْمُضَارَبَةِ فَضَارَبَ) الْمُضَارِبُ (بِالثُّلُثِ، وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ قِيلَ لَهُ) أَيْ وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ: (مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ) مَا رَزَقَ اللَّهُ (فَلِي نِصْفُهُ أَوْ مَا فَضَلَ) مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (فَنِصْفَانِ) فَعَمِلَ الثَّانِي وَرَبِحَ (فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ لِلثَّانِي) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي (وَسُدُسُهُ لِلْأَوَّلِ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً لِأَنَّهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ مَا رَزَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَدْ جَعَلَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي ثُلُثَهُ فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا، فَيَبْقَى لِلْأَوَّلِ السُّدُسُ وَيَطِيبُ ذَلِكَ لِكُلِّهِمْ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّهُ بِالْمَالِ وَهُمَا بِالْعَمَلِ.
(وَإِنْ دَفَعَ) الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي (بِالنِّصْفِ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا (فَنِصْفُهُ) أَيْ الرِّبْحِ (لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ لِلثَّانِي) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي (وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَانْصَرَفَ شَرْطُ الْأَوَّلِ النِّصْفَ لِلثَّانِي إلَى نَصِيبِهِ فَيَكُونُ لِلثَّانِي بِالشَّرْطِ، وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ.
(وَإِنْ شَرَطَ) الْأَوَّلُ (لِلثَّانِي الثُّلُثَيْنِ) أَيْ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا (فَكَمَا شَرَطَ) يَعْنِي لِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ لِلْمُضَارِبِ وَلِلثَّانِي الثُّلُثَانِ (وَيَضْمَنُ) الْمُضَارِبُ (الْأَوَّلُ لِلثَّانِي سُدُسًا) أَيْ سُدُسَ الرِّبْحِ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ شَرَطَ النِّصْفَ لِنَفْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ الثَّانِي ثُلُثَيْ الرِّبْحِ بِشَرْطِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَكِنْ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ شَرْطَهُ فَيَغْرَمَ لَهُ قَدْرَ السُّدُسِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ لِالْتِزَامِهِ بِالْعَقْدِ.
(وَإِنْ كَانَ قِيلَ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ يَعْنِي قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: (مَا رَزَقَك اللَّهُ - تَعَالَى - أَوْ مَا رَبِحْتَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَدَفَعَ) الْمُضَارِبُ لِآخَرَ مُضَارَبَةً (بِالثُّلُثِ) فَعَمِلَ الثَّانِي وَرَبِحَ (فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ) أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِكِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي (ثُلُثُهُ) لِأَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ مَشْرُوطٌ لِلثَّانِي، وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ ثُلُثَانِ وَهُوَ مَرْزُوقٌ لِلْأَوَّلِ، فَنِصْفُ الثُّلُثَيْنِ هُوَ الثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا شَرَطَ وَلَا يَبْقَى لِلْأَوَّلِ إلَّا الثُّلُثُ، وَيَطِيبُ لَهُمْ أَيْضًا.
(وَإِنْ دَفَعَ) الْمُضَارِبُ لِآخَرَ مُضَارَبَةً (بِالنِّصْفِ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (فَلِلثَّانِي نِصْفُ) الرِّبْحِ (وَلِكُلٍّ مِنْ) الْمُضَارِبِ (الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ رُبُعُ) الرِّبْحِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّهُ وَقَدْ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَبِحَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَرْبَحْ إلَّا النِّصْفَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا.
(وَلَوْ شَرَطَ) الْمُضَارِبُ (لِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثًا) مِنْ الرِّبْحِ (لِيَعْمَلَ) الْعَبْدُ (مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْمُضَارِبِ (وَ) شَرَطَ (لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثًا) مِنْ الرِّبْحِ (وَلِنَفْسِهِ ثُلُثًا صَحَّ) ذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ وَالتَّسْلِيمَ مِنْ الْمَالِكِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فَيَكُونُ مُنْفَرِدًا خُصُوصًا إذَا كَانَ مَأْذُونًا، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إذْنٌ لَهُ فَيَكُونُ حِصَّتُهُ لِلْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَإِلَّا فَهُوَ لِغُرَمَائِهِ إنْ شَرَطَ عَمَلَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمَوْلَى.
قَوْلُهُ مَعَهُ عَادِيٌّ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ.
قَيَّدَ بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ عَبْدَ الْمُضَارِبِ لَوْ شُرِطَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَمَلُهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ مَا شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ شُرِطَ عَمَلُهُ أَوْ لَا وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ، وَقَيَّدَ بِكَوْنِ الْعَاقِدِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَهَا الْمَأْذُونُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ، وَشَرَطَ عَمَلَ مَوْلَاهُ لَمْ يَصِحَّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَيَّدَ بِاشْتِرَاطِ عَمَلِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ مُفْسِدٌ، وَكَذَا اشْتِرَاطُ عَمَلِ الْمُضَارِبِ مَعَ مُضَارَبَةِ أَوْ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الثَّانِي وَلَوْ شَرَطَ بَعْضَ الرِّبْحِ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ فِي الرِّقَابِ لَمْ يَصِحَّ، وَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَوْ شَرَطَ لِمَنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ فَإِنْ شَاءَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِرَبِّ الْمَالِ صَحَّ، وَإِنْ شَاءَ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(وَتَبْطُلُ) الْمُضَارَبَةُ (بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا) أَيْ بِمَوْتِ الْمَالِكِ أَوْ الْمُضَارِبِ لِكَوْنِهَا وَكَالَةً وَهِيَ تَبْطُلُ بِهِ وَلَا يُوَرَّثُ.
(وَ) تَبْطُلُ أَيْضًا (بِلِحَاقِ رَبِّ الْمَالِ) بِدَارِ الْحَرْبِ حَالَ كَوْنِهِ (مُرْتَدًّا) وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - إذَا حُكِمَ بِلُحُوقِهِ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَى وَرَثَتِهِ فَلَمْ يَتَصَرَّفْ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَالِ إلَّا إذَا كَانَ مَتَاعًا أَوْ عُرُوضًا فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ فِيهِ جَائِزٌ حَتَّى يُحَصِّلَ رَأْسَ الْمَالِ.
قَيَّدَ بِلُحُوقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ وَلَمْ يَلْحَقْ وَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَادَ بَعْدَ لُحُوقِهِ مُسْلِمًا فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا كَمَا فِي الْبَحْرِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا لَمْ يُحْكَمْ بِلُحُوقِهِ أَمَّا إذَا حُكِمَ فَلَا تَعُودُ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَتْقَانِيِّ لَكِنْ فِي الْعِنَايَةِ: تَعُودُ سَوَاءٌ حُكِمَ بِلِحَاقِهِ أَوْ لَا.
(لَا) تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ (بِلِحَاقِ الْمُضَارِبِ) إجْمَاعًا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِلتَّوَقُّفِ فِي أَمْلَاكِهِ، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ كَمَا فِي السِّرَاجِ.
(وَلَا يَنْعَزِلُ) الْمُضَارِبُ (بِعَزْلِهِ) أَيْ بِعَزْلِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ (مَا لَمْ يَعْلَمْ) الْمُضَارِبُ (بِهِ) أَيْ بِالْعَزْلِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِعَزْلِهِ (فَإِنْ عَلِمَ) الْمُضَارِبُ بِعَزْلِهِ (وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (بَيْعُهَا) أَيْ الْعُرُوضِ مُطْلَقًا لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالنَّقْدِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْبَيْعِ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ (وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي ثَمَنِهَا) أَيْ فِي ثَمَنِ الْعُرُوضِ الَّتِي بَاعَهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَانَ لِلضَّرُورَةِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ بَعْدَ النَّقْدِ وَلَا يَمْلِكُ الْمَالِكُ فَسْخَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ حَقًّا فِي الرِّبْحِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(وَإِنْ كَانَ) مَالُ الْمُضَارَبَةِ (نَقْدًا مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ) أَيْ مَالِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ حِينَ أَعْلَمَهُ بِعَزْلِهِ (لَا يَتَصَرَّفُ) الْمُضَارِبُ (فِيهِ) أَيْ النَّقْدِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْزُولٌ (وَإِنْ) كَانَ الْمَالُ (مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ) أَيْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ (تَبْدِيلُهُ بِجِنْسِهِ) أَيْ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَهُوَ مَعْزُولٌ وَمَعَهُ دَنَانِيرُ لَهُ بَيْعُهَا بِالدَّرَاهِمِ (اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ جِنْسِهِ فَكَانَ لَهُ تَبْدِيلُهُ بِجِنْسِهِ ضَرُورَةً.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُبَدِّلُ لِأَنَّ النَّقْدَيْنِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ.
(وَلَوْ افْتَرَقَا) أَيْ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ بِالْفَسْخِ (وَ) كَانَ (فِي الْمَالِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ لَزِمَهُ) أَيْ الْمُضَارِبَ (الِاقْتِضَاءُ) أَيْ مُطَالَبَةُ الدَّيْنِ شَرْعًا (إنْ كَانَ) فِيهِ (رِبْحٌ) لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَجْرَ فَعَلَيْهِ عَمَلُ الطَّلَبِ (وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ (فَلَا) يَلْزَمُ الِاقْتِضَاءُ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فَلَا جَبْرَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ (وَيُوَكِّلُ) الْمُضَارِبُ (الْمَالِكَ بِهِ) أَيْ بِالِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الْعَاقِدُ، وَحُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْكِيلِهِ الْمَالِكَ فِي الطَّلَبِ إذَا امْتَنَعَ كَيْ لَا يَضِيعَ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ حَيْثُ لَا يَدْفَعُ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ عَقَدَ مَعَهُ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ.
(وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ هَذَا حُكْمُ (سَائِرِ الْوُكَلَاءِ) فَإِنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ الِاقْتِضَاءِ يُوَكِّلُونَ الْمُلَّاكَ (، وَالْبَيَّاعُ) مَنْ بَاعَ النَّاسَ بِأَجْرٍ (وَالسِّمْسَارُ) بِالْكَسْرِ: الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ (يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاقْتِضَاءِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْإِجْبَارِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِأُجْرَةٍ عَادَةً فَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا التَّقَاضِي وَالِاسْتِيفَاءُ، لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِمَا بَدَلُ عَمَلِهِمَا فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ.
(وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ صُرِفَ إلَى الرِّبْحِ أَوَّلًا) دُونَ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَصْلٌ فَيَنْصَرِفُ الْهَالِكُ إلَى التَّابِعِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ إلَى الْعَفْوِ ابْتِدَاءً (فَإِنْ زَادَ) الْهَالِكُ (عَلَى الرِّبْحِ لَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ) لِكَوْنِهِ أَمِينًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ لَا، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي هَلَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ فِي الْوَدِيعَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَالْمَالُ مَضْمُونٌ كَمَا فِي الْمِنَحِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ، لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَدَمُ الضَّمَانِ فِي الْكُلِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَالَ فِيهَا.
(فَإِنْ اقْتَسَمَاهُ) أَيْ الْمُضَارِبُ وَالْمَالِكُ الرِّبْحَ (وَفُسِخَتْ) الْمُضَارَبَةُ (ثُمَّ عُقِدَتْ) الْمُضَارَبَةُ جَدِيدًا (فَهَلَكَ الْمَالُ أَوْ بَعْضُهُ) فِي يَدِ الْمُضَارِبِ (لَا يَتَرَادَّانِ) أَيْ الْمُضَارِبُ وَالْمَالِكُ (الرِّبْحَ) الْمَقْسُومَ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ، وَثُبُوتُ الثَّانِيَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَهَلَاكُ الْمَالِ فِي الثَّانِي لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا آخَرَ.
(وَإِنْ اقْتَسَمَاهُ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ) ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ (تَرَادَّاهُ) أَيْ الْمُضَارِبُ وَالْمَالِكُ الرِّبْحَ الْمَقْسُومَ (حَتَّى يَتِمَّ رَأْسُ الْمَالِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ فَلَا يَسْلَمُ بِدُونِ سَلَامَةِ الْأَصْلِ (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ) مِنْ الرِّبْحِ بَعْدَمَا اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ (اقْتَسَمَاهُ) أَيْ مَا فَضَلَ لِأَنَّهُ رِبْحٌ.
(وَإِنْ لَمْ يَفِ) أَيْ رِبْحُ مَا هَلَكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ (فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ.

.فَصْلٌ فِي الْمُتَفَرِّقَاتِ:

(وَلَا يُنْفِقُ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهَا) أَيْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ (فِي مِصْرِهِ) الَّذِي وَلَدَ فِيهِ (أَوْ فِي مِصْرٍ اتَّخَذَهُ دَارًا) أَيْ وَطَنًا إذْ لَا يَحْتَبِسُ فِيهِ لِعَمَلِ الْمُضَارَبَةِ بَلْ يَسْكُنُ فِيهِ بِالسُّكْنَى الْأَصْلِيِّ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ قَيَّدَ بِاتَّخَذَهُ وَطَنًا لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مِصْرٍ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا فَنَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَلَا) يُنْفِقُ (فِي) الْمُضَارَبَةِ (الْفَاسِدَةِ)؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهُ (فَإِنْ سَافَرَ) الْمُضَارِبُ لِلتِّجَارَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ (فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ مِنْ مَالِهَا) أَيْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِسَبَبِ الِاحْتِبَاسِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالزَّوْجَةِ، فَإِذَا سَافَرَ صَارَ مَحْبُوسًا بِهِ فَتَجِبُ مُؤْنَتُهُ الرَّاتِبَةُ فِيهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي عُرْفِهِمْ إسْرَافًا.
(وَكَذَا كِسْوَتُهُ) بِالْمَعْرُوفِ (وَرَكُوبُهُ شِرَاءً وَاسْتِئْجَارًا)، وَعَلَفُ الدَّابَّةِ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِي سَفَرِهِ، وَحَوَائِجُهُ وَالرَّكُوبُ بِالْفَتْحِ الْمَرْكُوبُ.
(وَكَذَا أُجْرَةُ خَادِمِهِ) أَيْ خَابِزُهُ وَطَابِخُهُ وَغَاسِلُ ثِيَابِهِ وَعَامِلُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ (وَفِرَاشٌ يَنَامُ عَلَيْهِ وَغَسْلُ ثِيَابِهِ) مُسْتَدْرَكٌ بِقَوْلِهِ، وَخَادِمُهُ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ ثَمَنُ مَا يَغْسِلُ بِهِ مِثْلُ الْحُرْضِ وَالصَّابُونِ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ.
(وَ) كَذَا (الدَّهْنُ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بِمَعْنَى الْأَدْهَانِ (فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الدَّهْنِ كَالْحِجَازِ، وَكَذَا أُجْرَةُ الْحَمَّامِ وَالْحَلَّاقِ وَدَهْنُ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ وَإِنَّمَا قُلْنَا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الثِّيَابِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَلَكِنْ فِي عَادَةِ التِّجَارَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَزْدَادَ رَغَبَاتُ النَّاسِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَلَا يَعُدُّونَهُمْ فِي عِدَادِ الْمَفَالِيسِ (وَضَمِنَ) الْمُضَارِبُ (مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْعَادَةِ) لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ.
(وَنَفَقَتُهُ) أَيْ الْمُضَارِبِ (فِي مِصْرِهِ مِنْ مَالِهِ) لِمَا مَرَّ أَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُنْفِقُ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهَا فِي مِصْرِهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ لَكَانَ أَحْصَرَ (كَالدَّوَاءِ)، فَإِنَّهُ مِنْ مَالِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ دَائِمَةٌ بِخِلَافِ الدَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ، وَقَدْ لَا يَمْرَضُ فَلَا يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ فَيَكُونُ مِنْ مَالِهِ كَزَوْجَةٍ يَكُونُ دَوَاؤُهَا مِنْ مَالِهَا.
وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الدَّوَاءَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التِّجَارَةِ إلَّا بِهِ فَيَصِيرُ كَالنَّفَقَةِ (وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْ كِسْوَةٍ وَغَيْرِهَا) كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ (إذَا قَدِمَ) مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْكَنِهِ (إلَى رَأْسِ الْمَالِ) لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بِانْتِهَاءِ السَّفَرِ (وَمَا دُونَ السَّفَرِ كَسُوقِ الْمِصْرِ) فِي كَوْنِ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ لَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ (إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْدُوَ وَيَبِيتَ فِي أَهْلِهِ)؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّوقِ يَتَّجِرُونَ فِي أَسْوَاقِ الْمِصْرِ وَيَبِيتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ مَعَ أَنَّ ذَهَابَهُمْ وَإِيَابَهُمْ لِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ لَا لِلْغَيْرِ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَغْدُوَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ (فَكَالسَّفَرِ) فِي كَوْنِ نَفَقَتِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ قَدْ صَارَ لِلْمُضَارَبَةِ يَقِينًا (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَبْضِعِ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهَا) أَيْ مِنْ مَالِ الْبِضَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فَلَا تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ.
(وَيُؤْخَذُ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوَّلًا) يُرِيدُ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ يَأْخُذُ الْمَالِكُ مِنْ الرِّبْحِ مِقْدَارَ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِيُكْمِلَ رَأْسَ الْمَالِ (وَمَا فَضَلَ) مِنْ الرِّبْحِ (قُسِمَ) بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا فَتَكُونُ النَّفَقَةُ مَصْرُوفَةً إلَى الرِّبْحِ لَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَرْبَحْ تَجِبُ النَّفَقَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَمَا فِي الْفَرَائِدِ وَلَوْ أَنْفَقَ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
(وَإِنْ سَافَرَ) الْمُضَارِبُ (بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ) أَوْ خَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ (أَوْ) سَافَرَ (بِمَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ أَنْفَقَ بِالْحِصَّةِ) أَيْ تُوَزَّعُ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ مِنْ الْمَالِ.
(وَإِنْ بَاعَ) الْمُضَارِبُ (مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ مُرَابَحَةً حَسِبَ مَا أَنْفَقَهُ) أَيْ الْمُضَارِبُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَتَاعِ (مِنْ) أُجْرَةِ (حَمْلٍ وَنَحْوِهِ) مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ التُّجَّارِ بِضَمِّهِ كَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَقَالَ قَامَ عَلِيٌّ بِكَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ وَتَعَارَفَ التُّجَّارُ إلْحَاقَهَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَلِهَذَا قَالَ فِي التَّنْوِيرِ وَكَذَا يَضُمُّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَوْ اعْتَقَدَهُ التُّجَّارَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ (لَا) يَحْسِبُ (نَفَقَةَ نَفْسِهِ) أَيْ الْمُضَارِبِ فِي سَفَرِهِ إذَا بَاعَ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ.
(وَلَوْ شَرَى مُضَارِبٌ بِالنِّصْفِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ بَزًّا وَبَاعَهُ) أَيْ الْبَزَّ (بِأَلْفَيْنِ وَاشْتَرَى بِهِمَا عَبْدًا فَضَاعَا) أَيْ الْأَلْفَانِ (فِي يَدِهِ) أَيْ الْمُضَارِبِ (قَبْلَ نَقْدِهِمَا) أَيْ أَلْفَيْنِ (يَغْرَمُ الْمُضَارِبُ رُبْعَهُمَا) أَيْ رُبْعَ الْأَلْفَيْنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ (وَ) يَغْرَمُ (الْمَالِكُ الْبَاقِيَ) وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمَّا صَارَ أَلْفَيْنِ ظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْمَالِ وَهُوَ أَلْفٌ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَرُبْعُهُ لِلْمُضَارِبِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلْمَالِكِ، ثُمَّ إذَا ضَاعَ الْأَلْفَانِ قَبْلَ النَّقْدِ كَانَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ ثَمَنِ الْعَبْدِ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِي الْعَبْدِ فَرُبْعُهُ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى الْمَالِكِ (وَرُبْعُ الْعَبْدِ لِلْمُضَارِبِ وَبَاقِيهِ) وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ (لِلْمُضَارَبَةِ)؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ خَرَجَ عَنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَنَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِعَدَمِ مَا يُنَافِيهَا (وَرَأْسُ الْمَالِ) وَهُوَ جَمِيعُ مَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ (أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ)؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَرَّةً أَلْفًا وَأُخْرَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ (وَلَا يَبِيعُهُ) أَيْ الْمُضَارِبُ الْعَبْدَ (مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَلْفَيْنِ) وَلَا يَقُولُ: قَامَ عَلِيٌّ بِأَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ إذْ الشِّرَاءُ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ فَلَا تُضَمُّ الْوَضِيعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ (فَلَوْ بِيعَ) الْعَبْدُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ ذَلِكَ (بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ) بَعْدَ رَفْعِ الْمُضَارِبِ حِصَّتَهُ وَهِيَ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ رُبْعَ الْعَبْدِ كَانَ رُبْعُهُ مِلْكَهُ خَاصَّةً فَالْأَلْفُ رُبْعُهُ لِكَوْنِ ثَمَنِهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ مِنْهَا رَأْسَ الْمَالِ وَهُوَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ (وَالرِّبْحُ مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْمَالِكِ فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ لَا يَبِيعُهُ) الْمُضَارِبُ الْعَبْدَ (مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) وَلَا يَقُولُ قَامَ عَلِيٌّ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فَيَكُونُ بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ بِأَنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْجَارِيَ بَيْنَهُمَا كَالْمَعْدُومِ.
(وَلَوْ اشْتَرَى مُضَارِبٌ بِالنِّصْفِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يَعْدِلُ) أَيْ تُسَاوِي قِيمَتُهُ (أَلْفَيْنِ فَقَتَلَ) ذَلِكَ الْعَبْدُ (رَجُلًا) قَتْلًا (خَطَأً) فَأُمِرَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَإِذَا دَفَعَا الْعَبْدَ إلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ انْتَهَتْ الْمُضَارَبَةُ بِهَلَاكِ مَالِهِمَا بِالدَّفْعِ بِلَا دَلِيلٍ، وَكَذَا إنْ فَدَيَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ أَمَّا خُرُوجُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ فَلِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِي الْعَبْدِ بِالْفِدَاءِ فَصَارَ كَالْقِسْمَةِ وَأَمَّا خُرُوجُ حِصَّةِ الْمَالِكِ فَلِسَلَامَةِ الْحِصَّةِ مِنْهُ بِضَمَانِ الْفِدَاءِ (فَرُبْعُ الْفِدَاءِ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُضَارِبِ (وَبَاقِيهِ) وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ (عَلَى الْمَالِكِ)؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا فَكَذَا الْفِدَاءُ (وَإِذَا فُدِيَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ يَعْنِي إذَا فَدَيَا صَارَ الْعَبْدُ لَهُمَا وَلَكِنْ (خَرَجَ عَنْ الْمُضَارَبَةِ) فَبَقِيَ أَرْبَاعًا (فَيَخْدُمُ) الْمُضَارِبَ (يَوْمًا وَالْمَالِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الْفِدَاءِ كَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَاهُ، وَلَوْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الدَّفْعَ وَاخْتَارَ الْمُضَارِبُ الْفِدَاءَ مَعَ ذَلِكَ فَلَهُ الْفِدَاءُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا جَنَى خَطَأً لَا يَدْفَعُ بِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْمُضَارِبُ وَالْمَالِكُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِرْثُ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا لَا غَيْرُ لَا يَدْفَعُ إلَّا بِحَضْرَتِهِمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَالِكِ وَالْمُضَارِبِ لِلدَّفْعِ دُونَ الْفِدَاءِ إلَّا إذَا أَبَى الْمُضَارِبُ الدَّفْعَ وَالْفِدَاءَ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ فَلِرَبِّ الْمَالِ دَفْعُهُ لِتَعَيُّنِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَفِدَاءُ الْحَاضِرِ كَانَ مُتَطَوَّعًا كَمَا فِي الْبَحْرِ، وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ فَلِهَذَا كَانَ إلَيْهِمَا.
(وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا وَهَلَكَ الْأَلْفُ قَبْلَ نَقْدِهِ) أَيْ قَبْلَ دَفْعِهِ إلَى الْبَائِعِ (دَفَعَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ) يَعْنِي أَلْفًا آخَرَ (ثُمَّ) إذَا جَهَّزَ الْمَالِكُ أَلْفًا آخَرَ لِيَدْفَعَهُ، وَهَلَكَتْ قَبْلَ النَّقْدِ يَدْفَعُ إلَيْهِ نَقْدًا آخَرَ (وَثُمَّ) كَذَلِكَ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى حَتَّى يَصِلَ الثَّمَنُ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْأَمَانَةِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ (وَجَمِيعُ مَا دَفَعَ) الْمَالِكُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَكْثَرِ (رَأْسُ الْمَالِ)؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ دُونَ اسْتِيفَاءٍ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانَةِ يُنَافِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِرَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ هَلَاكِ الثَّمَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ قَبَضَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ اسْتِيفَاءً فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى.
(وَلَوْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ فَقَالَ) الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ (دَفَعْت إلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْتُ أَلْفًا، وَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ دَفَعْت إلَيْك أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ) وَقَالَ زُفَرُ: الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الرِّبْحَ وَالشَّرِكَةَ فِيهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ لِلْقَابِضِ وَلَوْ ضَمِينًا اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ الْقَوْلَ لَهُ.
(وَلَوْ اخْتَلَفَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي رَأْسِ الْمَالِ (فِي قَدْرِ الرِّبْحِ فَلِمَالِكٍ) أَيْ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ.
(وَلَوْ قَالَ: مَنْ مَعَهُ أَلْفٌ قَدْ رَبِحَ فِيهَا) الْجُمْلَةُ حَالٌ، أَوْ صِفَةُ أَلْفٍ (هِيَ مُضَارَبَةُ زَيْدٍ، وَقَالَ زَيْدٌ بَلْ بِضَاعَةٌ) أَبْضَعْته لَك (فَالْقَوْلُ لِزَيْدٍ)؛ لِأَنَّ مَنْ مَعَهُ أَلْفٌ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ أَوْ شَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ أَوْ الشَّرِكَةَ فِي مَالِهِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
(وَكَذَا لَوْ قَالَ ذُو الْيَدِ: هِيَ قَرْضٌ وَقَالَ زَيْدٌ): بَلْ (بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ) يَكُونُ الْقَوْلُ لِزَيْدٍ وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَمْلِيكَ الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ بِأَنْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْقَرْضَ وَالْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلضَّمَانِ.
(وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ) لِرَبِّ الْمَالِ (أَطْلَقْتَ وَقَالَ الْمَالِكُ عَيَّنْتُ نَوْعًا) مِنْ التِّجَارَةِ (فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ) مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ، وَالتَّخْصِيصُ يَصِيرُ لِعَارِضِ الشَّرْطِ، وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ مَنْ أَقَامَهَا، فَإِنْ أَقَامَاهَا، فَإِنْ وَقَّتَا وَقْتًا قَبْلَ صَاحِبِهَا يَقْضِي بِالْمُتَأَخِّرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا أَوْ وَقَّتَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ وَقَّتَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى قَضَى بِبَيِّنَةِ رَبِّ الْمَالِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(وَلَوْ ادَّعَى كُلٌّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِكِ وَالْمُضَارِبِ (نَوْعًا) مُغَايِرًا لِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ (فَلِلْمَالِكِ) أَيْ الْقَوْلُ لِلْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُضَارِبِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ، وَلَوْ وَقَّتَ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ آخَرَ الشَّرْطَيْنِ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ، فَإِنْ قُلْت: إنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَيَلْزَمُهَا نَفْيُ الضَّمَانِ فَأَقَامَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ اللَّازِمَ مَقَامَ الْمَلْزُومِ.
وَفِي الْمِنَحِ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا، أَوْ وَقَّتَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ وَقَّتَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ يَدَّعِي الْعُمُومَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ.

.كِتَاب الْوَدِيعَةِ:

لَا خَفَاءَ فِي اشْتِرَاكِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْأَمَانَةُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَيُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيُكْتَبُنَّ مَعَ الْغَافِلِينَ» أَيْ عَنْ تَرْكِهَا يُقَالُ لَهُ مُودَعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ وَلِتَارِكِهَا مُودِعٌ بِكَسْرِهَا.
وَفِي الشَّرِيعَةِ (الْإِيدَاعُ تَسْلِيطُ الْمَالِكِ غَيْرَهُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ) صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً لِمَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ لَوْ انْفَتَقَ زِقُّ رَجُلٍ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ حَاضِرًا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ (الْوَدِيعَةُ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ لِلْحِفْظِ) مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ: أَوْدَعْتُك هَذَا الْمَالَ أَوْ كِنَايَةً كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ: أَعْطِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ رَجُلٌ: أَعْطِنِيهِ فَقَالَ: أَعْطَيْتُك فَهَذَا عَلَى الْوَدِيعَةِ كَمَا فِي الْمِنَحِ أَوْ فِعْلًا كَمَا لَوْ وَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَهُوَ إيدَاعٌ أَمَّا لَوْ قَالَ: لَمْ أَقْبَلْهُ لَمْ يَضْمَنْ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا يُعَارَضُ بِالصَّرِيحِ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُودَعِ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ: قَبِلْتهَا وَنَحْوِهِ، أَوْ دَلَالَةً كَمَا لَوْ سَكَتَ عِنْدَ وَضْعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ لَوْ وَضَعَ كِتَابَهُ عِنْدَ قَوْمٍ فَذَهَبُوا وَتَرَكُوهُ ضَمِنُوا إذَا ضَاعَ، وَإِنْ قَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ ضَمِنَ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْحِفْظِ فَتَعَيَّنَ الضَّمَانُ، وَلِهَذَا لَوْ وَضَعَ ثِيَابَهُ فِي الْحَمَّامِ بِمَرْأَى الثِّيَابِيِّ كَانَ إيدَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَكُونُ الْحَمَّامِيُّ مُودَعًا مَا دَامَ الثِّيَابِيُّ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْحَمَّامِيُّ مُودَعٌ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْخَانِ: أَيْنَ أَرْبِطُهَا فَقَالَ هُنَاكَ كَانَ إيدَاعًا.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ لَبِسَ ثَوْبًا بِمَرْأَى الثِّيَابِيِّ فَظَنَّ الثِّيَابِيُّ أَنَّهُ ثَوْبُهُ، فَإِذَا هُوَ ثَوْبُ الْغَيْرِ ضَمِنَ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَلَوْ نَامَ الْحَمَّامِيُّ وَسُرِقَ الثَّوْبُ إنْ نَامَ قَاعِدًا لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ مُضْطَجِعًا يَضْمَنُ وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْمَالِ قَابِلًا لِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَوْدَعَ الطَّيْرَ الْآبِقَ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَالَ السَّاقِطَ فِي الْبَحْرِ لَا يَصِحُّ.
وَكَوْنُ الْمُودَعِ مُكَلَّفًا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحِفْظِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا فَاسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَحْجُورًا ضَمِنَ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ كَانَ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ الصَّبِيُّ ضَمِنَ عَاقِلَةَ الصَّبِيِّ قِيمَتَهُ، وَخُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ، وَصَيْرُورَةُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَوُجُوبُ أَدَائِهِ عِنْدَ طَلَبِ مَالِكِهِ وَشَرْعِيَّةُ الْإِيدَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهَا وَبِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُودِعُ وَيُسْتَوْدَعُ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَدِيعَةِ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى} وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» (وَهِيَ) أَيْ الْوَدِيعَةُ (أَمَانَةٌ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ خَاصَّةٌ وَالْأَمَانَةَ عَامَّةٌ، وَحَمْلُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ صَحِيحٌ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا يُقَالُ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ وَلَا يُقَالُ: الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ مَا يَقَعُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ، وَفِي الْوَدِيعَةِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ، وَفِي الْأَمَانَةِ لَا يَبْرَأُ بَعْدَ الْخِلَافِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بَاشَا: وَفِيهِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ فِي إحْدَاهُمَا الْقَصْدُ وَفِي الْأُخْرَى عَدَمُهُ كَانَ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ لَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَالْأَمَانَةُ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَالْأَمَانَةُ مَا يَقَعُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَوْنُهَا بِلَا اعْتِبَارِ قَصْدٍ لَا إنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ مُعْتَبَرٌ فِيهَا حَتَّى يَلْزَمَ التَّبَايُنُ بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِالْقَصْدِ فَقَطْ، وَالْأَمَانَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْقَصْدِ وَبِغَيْرِهِ تَدَبَّرْ وَمَا فِي الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعَقْدِ، وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَانَةَ مُبَايِنَةٌ لِلْوَدِيعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْحِفْظِ فِعْلُ الْمُودِعِ، وَهُوَ الْمَعْنَى، وَالْأَمَانَةُ عَيْنٌ مِنْ الْأَعْيَانِ فَيَكُونَانِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْوَدِيعَةُ مَا تُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ كَمَا فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ.
(فَلَا يَضْمَنُ) أَيْ لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ (بِالْهَلَاكِ) سَوَاءٌ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْ لَا هَلَكَ مَعَهَا لِلْمُودَعِ شَيْءٌ أَوْ لَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِأَنَّ شَرْعِيَّتَهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَلَوْ ضَمِنَهَا الْمُودَعُ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ، وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، وَبِهِ يُفْتَى كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ الدُّرَرِ فَقَالَ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُودَعُ مُجْهِلًا أَيْ لَمْ يُبَيِّنْ حَالَ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فَتُضْمَنُ، وَكَذَا الْأُمَنَاءُ أَيْ كُلُّ أَمِينٍ مَاتَ مُجْهِلًا لِحَالِ الْأَمَانَةِ يَضْمَنُ إلَّا مُتَوَلِّيًا أَخَذَ الْغَلَّةَ، وَمَاتَ مُجْهِلًا، وَسُلْطَانًا أَوْدَعَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ وَمَاتَ مُجْهِلًا أَيْ بِلَا بَيَانِ الْمُودَعِ، وَقَاضِيًا أَوْدَعَ مَالَ الْيَتِيمِ وَمَاتَ مُجْهِلًا بِلَا بَيَانِ الْمُودَعِ انْتَهَى لَكِنَّ الْأَوْلَى الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَأَوْدَعَ بَعْضَ الْغَنِيمَةِ بَعْضَ النَّاسِ لَكِنَّ الِانْحِصَارَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا يَلِيقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْأَبُ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا مَالَ ابْنِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْوَارِثُ مُجْهِلًا مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُوَرِّثِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِمَا أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي بَيْتِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِمَا وَضَعَهُ مَالِكُهُ فِي بَيْتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ مُجْهِلًا لِمَا أُودِعَ عِنْدَهُ مَحْجُورًا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ نَصِيبَ شَرِيكِهِ.
(وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (بِنَفْسِهِ) فِي دَارِهِ، وَمَنْزِلِهِ وَحَانُوتِهِ، وَلَوْ إجَارَةً أَوْ عَارِيَّةً (وَعِيَالِهِ) مِنْ زَوْجَتِهِ، وَوَلَدِهِ وَوَالِدَيْهِ وَأَجِيرِهِ لِلْمُسَاكَنَةِ سَوَاءٌ كَانُوا فِي نَفَقَتِهِ أَوْ لَا، وَكَذَا لَوْ حَفِظَتْ الزَّوْجَةُ الْوَدِيعَةَ بِزَوْجِهَا فَضَاعَتْ لَا تَضْمَنُ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ مَعَهَا بِلَا نَفَقَةٍ مِنْهَا وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَجِيرِ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ عَلَيْهِ، وَوَلَدُهُ الْكَبِيرُ إنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ دُونَ الْأَجِيرِ الْمُيَاوَمَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَشْهَبَ الْمَالِكِيِّ يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ وَشَرْطُ كَوْنِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَمِينًا، فَلَوْ دَفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ وَهِيَ غَيْرُ أَمِينَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِذَلِكَ أَوْ تَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ الَّذِي فِيهِ وَدَائِعُ النَّاسِ، وَذَهَبَ فَضَاعَتْ ضَمِنَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
(وَلَهُ) أَيْ لِلْمُودَعِ (السَّفَرُ بِهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (عِنْدَ عَدَمِ النَّهْيِ) عَنْ الْمَالِكِ (وَالْخَوْفِ) عَلَى الْوَدِيعَةِ بِالْإِخْرَاجِ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ أَمِينًا لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ بِسُوءٍ غَالِبًا فِيهِ، وَلَوْ قَصَدَهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرُفْقَتِهِ هَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَانَ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ، وَأَمَّا إذَا قَالَ: احْفَظْهَا فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَا تُخْرِجْهَا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ سَفَرًا لَهُ بُدٌّ مِنْهُ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ سَفَرًا لَا بُدَّ مِنْهُ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ تَرْكُهَا فِي أَهْلِهِ وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ وَيَضْمَنُ لَوْ سَافَرَ بِهَا فِي الْبَحْرِ إجْمَاعًا (خِلَافًا لَهُمَا فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَتَقَيَّدُ لَكِنْ قِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ السَّفَرُ بَعِيدًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ السَّفَرُ بِهَا بَعِيدًا كَانَ أَوْ قَرِيبًا فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ.
(فَإِنْ حَفِظَهَا) أَيْ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ (بِغَيْرِهِمْ) أَيْ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَضَاعَتْ (ضَمِنَ) الْمُودَعُ أَوْ ذَلِكَ الْغَيْرُ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَ بِيَدِ غَيْرٍ، وَالْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُودَعُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى وَكِيلِهِ، وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ أَوْ دَفَعَ إلَى أَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ لَا يَضْمَنُ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ثُمَّ قَالَ، وَعَنْ هَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التُّحْفَةِ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ بِالْعِيَالِ (إلَّا إذَا خَافَ) الْمُودَعُ (الْحَرْقَ) بِأَنْ وَقَعَتْ نَارٌ الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِهِ فَخَافَ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ (أَوْ) خَافَ (الْغَرَقَ) كَذَلِكَ (فَدَفَعَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (إلَى جَارِهِ) فِي صُورَةِ الْحَرْقِ (أَوْ) دَفَعَهَا (إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى) فِي صُورَةِ الْغَرَقِ فَضَاعَتْ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَصَارَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً وَلِهَذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: امْرَأَةٌ حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ وَعِنْدَهَا وَدِيعَةٌ فَدَفَعَتْهَا إلَى جَارَةٍ لَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ وَفَاتِهَا بِحَضْرَتِهَا أَحَدٌ مِنْ عِيَالِهَا لَا يَضْمَنُ.
وَفِي التَّبْيِينِ هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إلَى الْأَجْنَبِيِّ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ لَهُ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ أَلْقَاهَا فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى، وَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِيهَا بِأَنْ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ ابْتِدَاءً أَوْ بِالتَّدَحْرُجِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَفِي الْمِنَحِ إنْ ادَّعَى الْمُودَعُ التَّسْلِيمَ إلَى جَارِهِ أَوْ إلَى فُلْكٍ آخَرَ صُدِّقَ إنْ عُلِمَ وُقُوعُهُ أَيْ الْغَرَقِ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَا يُصَدَّقُ.
(فَإِنْ طَلَبَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (رَبُّهَا فَحَبَسَهَا) أَيْ حَبَسَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ.
(وَ) الْحَالُ (هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (صَارَ غَاصِبًا) فَيَضْمَنُ إنْ ضَاعَتْ لِوُجُودِ التَّعَدِّي بِمَنْعِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِإِمْسَاكِهِ بَعْدَهُ فَيَضْمَنُهَا بِحَبْسِهِ عَنْهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّهَا فَقَالَ لَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَحْضُرَ هَذِهِ السَّاعَةَ فَتَرَكَهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ صَارَ مُودِعًا ابْتِدَاءً وَإِلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّهَا فَقَالَ: اُطْلُبْهَا غَدًا فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ: هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ إنْ هَلَكَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ: اُطْلُبْهَا كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَإِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ وَقْتَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَرُدَّهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَالِهِ بِأَنْ كَانَ مَدْفُونًا مَعَ مَالِهِ لَا يَضْمَنُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ.
(وَكَذَا) يَضْمَنُ إنْ هَلَكَتْ (لَوْ) طَلَبَهَا صَاحِبُهَا وَ (جَحَدَهُ) أَيْ جَحَدَ عِنْدَ مَالِكِهَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ بِقَرِينَةِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ جَحْدِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ (إيَّاهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ بِأَنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (أَقَرَّ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْجُحُودِ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَبِ ارْتَفَعَ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَصَارَ غَاصِبًا بَعْدَهُ (بِخِلَافِ جَحْدِهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (عِنْدَ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُودَعِ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ.
وَقَالَ زُفَرُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ بِالْجُحُودِ صَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ، وَلَنَا أَنَّ إنْكَارَهُ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ كَانَ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ طَمَعِ طَامِعٍ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِخِلَافِ حَضْرَتِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك لِيَشْكُرَ عَلَى حِفْظِهَا فَجَحَدَهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِلَى أَنَّ الْمُودَعَ لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْمَالِكَ وَهَبَهَا مِنْهُ أَوْ بَاعَهَا لَهُ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهَا، ثُمَّ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَإِلَى أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ مَنْقُولًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَقَارًا لَا يَضْمَنُ بِالْجُحُودِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَمَا فِي التَّبْيِينِ.
وَفِي الْبَحْرِ هَذَا إذَا نَقَلَهَا مِنْ مَكَانِهَا وَقْتَ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ مَكَانِهَا حَالَ جُحُودِهِ فَهَلَكَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ: وَلَوْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ ادَّعَى رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَرْهَنَ عَلَى الرَّدِّ قَبْلَ بُرْهَانِهِ وَبَرِئَ مِنْهَا قَبْلَ الْجُحُودِ، وَقَالَ: غَلِطْت فِي الْجُحُودِ أَوْ نَسِيت أَوْ ظَنَنْت أَنِّي دَفَعْتهَا، وَأَنَا صَادِقٌ فِي قَوْلِي لَمْ يَسْتَوْدِعْنِي، فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ فِي قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ لَوْ قَالَ: لَمْ يَسْتَوْدِعْنِي، ثُمَّ ادَّعَى الرَّدَّ وَالْهَلَاكَ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، ثُمَّ ادَّعَى الرَّدَّ أَوْ الْهَلَاكَ يُصَدَّقُ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَلْيُطَالَعْ.
(وَإِنْ خَلَطَهَا) أَيْ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ (بِمَالِهِ) بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ إنْ خَلَطَهَا بِإِذْنِهِ كَانَ شَرِيكًا فِيهَا (بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ، فَإِنْ) خَلَطَهَا (بِجِنْسِهَا) كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ وَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ فِي الْمَائِعِ (ضَمِنَ) الْمُودَعُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا، وَإِذَا ضَمِنَهَا مَلَكَهَا (وَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْوَدِيعَةِ (فِي الْمَائِعِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ) لَكِنْ قَالُوا: لَا يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ قَيَّدَ بِكَوْنِ الْمُودَعِ هُوَ الْخَالِطَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْخَالِطِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَلَا يَضْمَنُ أَبُوهُ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ (وَعِنْدَهُمَا فِي غَيْرِ الْمَائِعِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُشْرِكَهُ إنْ شَاءَ)؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ آخَرَ إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وُصُولُ الْمَالِكِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ حُكْمًا بِالْقِسْمَةِ إذْ الْقِسْمَةُ فِيمَا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ إفْرَازٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَلَهُ أَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْمَالِكِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ حَقِيقَةً فَيَنْقَطِعُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَلَى الْمَخْلُوطِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُوَصِّلَةٍ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَى الِانْقِطَاعِ ضَرُورَةً.
(وَكَذَا) لِلْمَالِكِ أَنْ يُشْرِكَهُ (فِي الْمَائِعِ) إنْ شَاءَ (عِنْدَ مُحَمَّدٍ)؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِيهِ) اعْتِبَارًا لِلْغَائِبِ إجْزَاءً.
وَفِي التَّسْهِيلِ اعْتِرَاضٌ فَلْيُطَالَعْ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْخَلْطِ بِالْجِنْسِ لَا يَضْمَنُ (وَإِنْ) خَلَطَهَا (بِغَيْرِ جِنْسِهَا كَبُرٍّ بِشَعِيرٍ وَزَيْتٍ بِشَيْرَجٍ ضَمِنَ) الْمُودَعُ (وَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ إجْمَاعًا)؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ حَقِيقَةً فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ خَلَطَ عَلَى وَجْهٍ تَتَمَيَّزُ لَمْ يَضْمَنْ.
(وَإِنْ اخْتَلَطَتْ) الْوَدِيعَةُ بِمَالِ الْمُودَعِ (بِلَا صُنْعِهِ) أَيْ الْمُودَعِ (اشْتَرَكَا) أَيْ الْمُودِعُ وَالْمُودَعُ (إجْمَاعًا)؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّعَدِّي، وَلَمْ يُوجَدْ وَكَانَتْ شَرِكَةَ مِلْكٍ فَالْهَالِكُ مِنْ مَالِهِمَا فَلَمْ يَضْمَنْ.
(وَإِنْ تَعَدَّى) الْمُودَعُ (فِيهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (بِأَنْ كَانَتْ) الْوَدِيعَةُ (ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ) فَهَلَكَتْ (ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مَعْنًى (فَإِنْ أَزَالَ التَّعَدِّيَ) بِأَنْ تَرَكَ اللُّبْسَ أَوْ الرُّكُوبَ أَوْ الِاسْتِخْدَامَ سَلِيمًا (زَالَ الضَّمَانُ)، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَزُولُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ بِالتَّعَدِّي فَلَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَنَا أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا يُنَافِيهِ وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يُنَافِي الْإِيدَاعَ، وَلِذَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ ابْتِدَاءً، فَإِذَا زَالَ عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ.
وَفِي الْبَحْرِ أَنَّهُ يَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى التَّعَدِّي حَتَّى لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ لَيْلًا وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَلْبَسَهُ نَهَارًا، ثُمَّ سُرِقَ لَيْلًا لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ.
وَفِي الْمِنَحِ أَنَّ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ إنَّمَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي الْعَوْدِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ (بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ) لِلْعَيْنِ إذَا تَعَدَّيَا، ثُمَّ أَزَالَاهُ يَزُولُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُمَا كَانَ لِأَنْفُسِهِمَا لِاسْتِيفَائِهِمَا الْمَنَافِعَ عَنْهَا فَبِإِزَالَةِ التَّعَدِّي عَنْ الْعَيْنِ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ إلَى صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الْمُودَعِ، فَإِنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ حُكْمًا لِكَوْنِهِ عَامِلًا لَهُ فِي الْحِفْظِ خِلَافًا لِزُفَرَ اعْتِبَارًا الْوَدِيعَةِ.
(وَكَذَا) زَالَ الضَّمَانُ (لَوْ أَوْدَعَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا) لِمَا مَرَّ.
(وَإِنْ أَنْفَقَ) الْمُودَعُ (بَعْضَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (فَهَلَكَ الْبَاقِي ضَمِنَ مَا أَنْفَقَ فَقَطْ) وَلَا يَضْمَنُ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِقَدْرِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ خَانَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ فِي الْإِنْفَاقِ بِيَمِينِهِ.
(وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي ضَمِنَ الْجَمِيعَ)؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مَالَ غَيْرِهِ بِمَالِهِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ يَعْنِي عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ شَرَكَهُ، وَإِنْ شَاءَ يَضْمَنُ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ فَقَطْ، قَيَّدَ بِالْإِنْفَاقِ وَرَدِّ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهُ فِي حَاجَتِهِ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ ضَاعَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَتَمَامُهُ فِي الْمِنَحِ فَلْيُرَاجَعْ.
(وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (فَرَبِحَ يَتَصَدَّقُ بِهِ) أَيْ بِالرِّبْحِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ لَهُ) الرِّبْحُ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ سَلَّمَ عَيْنَهَا بِأَنْ بَاعَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا وَدَفَعَ إلَى مَالِكِهَا وَدَلِيلُ الطَّرَفَيْنِ بُيِّنَ فِي الْبَيْعِ.
(وَإِنْ أَوْدَعَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ شَيْئًا لَا يَدْفَعُ) الْوَاحِدُ (إلَى أَحَدِهِمَا) أَيْ إلَى أَحَدِ الِاثْنَيْنِ (حِصَّتَهُ بِغَيْبَةِ الْآخَرِ)، فَإِنْ دَفَعَ ضَمِنَ نِصْفَهُ إنْ هَلَكَ عِنْدَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ غَيْرَ مِثْلِيٍّ فِي الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّفْعَ يُوجِبُ الْقِسْمَةَ، وَالْمُودَعُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ لَا بِالْقِسْمَةِ (خِلَافًا لَهُمَا) فِي الْمِثْلِيِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ غَالِبٌ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ غَالِبٌ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ فِيهِ وَيَجُوزُ فِي الْمِثْلِيِّ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ حَتَّى لَوْ خَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَأْمُرْهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَكُونُ قِسْمَةً اتِّفَاقًا حَتَّى إذَا هَلَكَ الْبَاقِي رَجَعَ صَاحِبُهُ عَلَى الْآخِذِ بِحِصَّتِهِ وَإِلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنْهَا إذَا ظَفِرَ بِهَا وَإِلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ وَارْتَكَبَ الْمَمْنُوعَ لَا يَضْمَنُ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَإِنْ أَوْدَعَ) وَاحِدٌ (عِنْدَ اثْنَيْنِ مَا يُقْسَمُ) أَيْ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (اقْتَسَمَاهُ) أَيْ الْمُودَعَانِ (وَحَفِظَ كُلُّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (حِصَّتَهُ)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى حِفْظِهِمَا وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلنِّصْفِ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ (فَإِنْ دَفَعَ أَحَدُهُمَا) كُلَّهُ (إلَى الْآخَرِ ضَمِنَ الدَّافِعُ) عِنْدَ الْإِمَامِ، وَكَذَا الْمُرْتَهِنَانِ وَالْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ فِعْلَ الِاثْنَيْنِ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يَقْبَلُ التَّجَزِّي تَنَاوَلَ الْبَعْضَ لَا الْكُلَّ، فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الْكُلَّ إلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يَرْضَ الْمَالِكُ بِهِ يَضْمَنُ (لَا) يَضْمَنُ (الْقَابِضُ)؛ لِأَنَّ مُودَعَ الْمُودَعِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ (وَعِنْدَهُمَا لِكُلِّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (حِفْظُ الْكُلِّ) أَيْ كُلِّ الْوَدِيعَةِ (بِإِذْنِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْآخَرَ وَلَا يَضْمَنُهُ.
(وَإِنْ) كَانَ مَا أُودِعَ عِنْدَ الِاثْنَيْنِ (مِمَّا لَا يُقْسَمُ) أَيْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ كَالْعَبْدِ أَوْ مِمَّا يَتَعَيَّبُ بِالْقِسْمَةِ كَالثَّوْبِ (حَفِظَهُ) أَيْ مَا لَا يُقْسَمُ (أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ إجْمَاعًا)؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِثُبُوتِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي الْكُلِّ.
(وَإِنْ نَهَى) أَيْ نَهَى الْمَالِكُ الْمُودَعَ (عَنْ دَفْعِهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (إلَى عِيَالِهِ فَدَفَعَ) الْمُودَعُ (إلَى مَنْ) نَهَاهُ، وَكَانَ (لَهُ مِنْهُ بُدٌّ) وَعَدَمُ احْتِيَاجٍ إلَيْهِ كَدَفْعِهِ الْخَاتَمَ إلَى عَبْدِهِ مَعَ أَنَّ لَهُ أَهْلًا سِوَاهُ (ضَمِنَ) إنْ هَلَكَ.
(وَإِنْ) دَفَعَهَا (إلَى مَنْ لَا بُدَّ) أَيْ لَا فِرَاقَ (لَهُ مِنْهُ كَدَفْعِ الدَّابَّةِ إلَى عَبْدِهِ، وَ) كَدَفْعِ (شَيْءٍ يَحْفَظُهُ النِّسَاءُ إلَى زَوْجَتِهِ لَا يَضْمَنُ) إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ مِمَّا يُحْفَظُ بِيَدِهِ أَوْ بِأَيْدِي عِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ فَنَهْيُ الْمَالِكِ يُعْتَبَرُ إنْ كَانَ النَّهْيُ مُفِيدًا وَإِلَّا يُعْتَبَرُ الْحِفْظُ الْمَطْلُوبُ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تَدْفَعْ إلَى فُلَانٍ مِنْ عِيَالِك، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ سِوَاهُ لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَى مَنْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِهَا إلَيْهِ ضَمِنَ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَوْ كَانَ الْآخَرُ دُونَ الْأَوَّلِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا.
(وَإِنْ أَمَرَهُ) أَيْ أَمَرَ الْمَالِكُ الْمُودَعَ (بِحِفْظِهَا) أَيْ الْوَدِيعَةِ (فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ دَارِ) الْمُودَعِ (فَحَفِظَهَا فِي غَيْرِهِ) أَيْ حَفِظَ الْمُودَعُ فِي بَيْتٍ آخَرَ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، وَكَانَتْ بُيُوتُ الدَّارِ مُسْتَوِيَةً فِي الْحِفْظِ (لَا يَضْمَنُ) الْمُودَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحِفْظُ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فَلَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ (إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ (خَلَلٌ ظَاهِرٌ) بِأَنْ كَانَتْ الدَّارُ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتَانِ عَظِيمَةً، وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنْ الْحِفْظِ فِيهِ مَكْشُوفٌ يُتَخَوَّفُ مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ مُعْتَبَرٌ حِينَئِذٍ فَيَضْمَنُ لِكَوْنِ الْمُعَيَّنِ أَحْرَزَ مِنْ الْآخَرِ.
(وَإِنْ أُمِرَ بِحِفْظِهَا فِي دَارٍ فَحَفِظَ فِي غَيْرِهَا) أَيْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الدَّارِ (ضَمِنَ) لِتَفَاوُتِ الدَّارَيْنِ فِي الْأَغْلَبِ فَيُقَيَّدُ بِأَمْرِهِ.
(وَلَوْ أَوْدَعَ الْمُودَعُ) غَيْرَهُ (فَهَلَكَتْ) الْوَدِيعَةُ (ضَمِنَ) الْمُودَعُ (الْأَوَّلُ فَقَطْ) عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ أَمِينٍ إذْ بِالدَّفْعِ لَا يَكُونُ ضَمِينًا مَا لَمْ يُفَارِقْهُ لِحُضُورِ رَأْيِهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ اللَّازِمَ بِالْتِزَامٍ فَيَضْمَنُ بِتَرْكِهِ وَالثَّانِي مُدَاوِمٌ عَلَى الْحِفْظِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فِي هَلَاكِ الْمَالِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ (وَعِنْدَهُمَا)، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (ضَمِنَ أَيًّا شَاءَ) أَيْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَائِنٌ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الثَّانِي بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَالثَّانِيَ مُتَعَدٍّ بِقَبْضِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ (فَإِنْ ضَمِنَ) الْمَالِكُ الْمُودَعَ (الثَّانِيَ رَجَعَ) أَيْ الثَّانِي (عَلَى الْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ (لَا) يَرْجِعُ (بِالْعَكْسِ) أَيْ ضَمِنَ الْمَالِكُ الْمُودَعَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ أُودِعَ مِلْكَ نَفْسِهِ.
(وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَاصِبُ) الْمَغْصُوبَ عِنْدَ غَيْرِهِ (ضَمِنَ) الْمَغْصُوبُ مِنْهُ (أَيًّا شَاءَ) مِنْ الْغَاصِبِ وَمُودَعِهِ (إجْمَاعًا)؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي التَّلَقِّي مِنْهُ ابْتِدَاءً لِعَدَمِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَكَذَا بَقَاءً، ثُمَّ مُودَعُ الْغَاصِبِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُودِعَ غَاصِبٌ فَضَمِنَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ عَلِمَ فَكَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ وَحَكَى أَبُو الْيُسْرِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
(وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدٍ مَحْجُورٍ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ بِأَخْذِ الْوَدِيعَةِ يَضْمَنُ فِي الْحَالِ اتِّفَاقًا (شَيْئًا فَأَتْلَفَهُ) أَيْ أَتْلَفَ الْعَبْدُ ذَلِكَ الشَّيْءَ (ضَمِنَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ) عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ.
(وَإِنْ) أَوْدَعَ (عِنْدَ صَبِيٍّ) يَعْقِلُ (فَأَتْلَفَهُ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا) لَا حَالٌّ وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحْفَظَ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلِ الْتِزَامِ الْحِفْظِ أَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ أَصْلًا فَصَارَ الْمَالِكُ كَأَنَّهُ أَذِنَ بِإِتْلَافِهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَالْتِزَامُهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى نَظَرًا فَلَا يَضْمَنُ فِي الْحَالِ، وَصَحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا فَيَضْمَنُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا مَرَّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنَانِ) أَيْ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ (لِلْحَالِّ) فَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَحْجُورِيَّتَهما فِي الْأَقْوَالِ فَقَطْ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَا عَيْنًا قَبْلَ الْإِيدَاعِ يَضْمَنَانِ هَذَا بِإِتْلَافِهِمَا، أَمَّا لَوْ تَلِفَتْ فِي أَيْدِيهِمَا لَا يَضْمَنَانِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ أَتْلَفَا مَا أُودِعَ عِنْدَ الْأُبَابِ، وَالْمَوْلَى يَضْمَنَانِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَ صَبِيٍّ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ لَا يَضْمَنُ اتِّفَاقًا كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْمُحِيطِ ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي صَبِيٍّ يَعْقِلُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا بَلْ الْخِلَافُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِقْرَاضُ وَالْإِعَارَةُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ.
(وَإِنْ دَفَعَ الْعَبْدُ الْوَدِيعَةَ إلَى مِثْلِهِ) أَيْ إلَى عَبْدٍ مَحْجُورٍ (فَهَلَكَتْ) عِنْدَ الثَّانِي (ضَمِنَ الْأَوَّلُ) أَيْ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَبْدَ الدَّافِعَ (بَعْدَ الْعِتْقِ) فَلَا يُضَمِّنُ الثَّانِيَ عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعُ الْمُودَعِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَّنَ أَيُّهُمَا شَاءَ لِلْحَالِّ) أَيْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتْلِفٌ بِالدَّفْعِ، وَالثَّانِيَ مُتَعَدٍّ بِقَبْضِهِ بِلَا إذْنٍ كَمَا مَرَّ آنِفًا (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ فَبَعْدَ الْعِتْقِ)؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْإِمَامِ فِي إيدَاعِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ.
(وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ فَلِلْحَالِّ)؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ فِعْلٍ بِقَبْضِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَزِمَهُ فِي الْحَالِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي، فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ وَدِيعَةً وَضَاعَ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ قَبْلَ الْعِتْقِ اتِّفَاقًا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الثَّانِيَ يُضَمَّنُ بَعْدَ الْعِتْقِ.
(وَمَنْ مَعَهُ أَلْفُ) دِرْهَمٍ (فَادَّعَى كُلُّ) وَاحِدٍ (مِنْ اثْنَيْنِ إيدَاعَهَا) أَيْ الْأَلْفِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مَنْ ادَّعَى (فَنَكَلَ) عَنْ الْحَلِفِ (لَهُمَا) أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَاهُ (فَهِيَ) أَيْ الْأَلْفُ (لَهُمَا) لِلِاثْنَيْنِ (وَضَمِنَ لَهُمَا) أَيْ لِلِاثْنَيْنِ (مِثْلَهَا) أَيْ مِثْلَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا صَحِيحَةٌ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قَضَى بِهِ لِمَنْ نَكَلَ لَهُ دُونَ الْآخَرِ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا قَضَى بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى لِإِقْرَارِهِ لَهُمَا وَلِلْقَاضِي أَنْ يَبْدَأَ أَيُّهُمَا شَاءَ بِالتَّحْلِيفِ، وَالْأَوْلَى الْقُرْعَةُ وَفِي التَّحْلِيفِ لِلثَّانِي يَقُولُ: بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ الْعَيْنُ لَهُ وَلَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوْلَى ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهَا لَهُ فَلَا يُفِيدُ إقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكَانَ صَادِقًا.
وَفِي الْبَحْرِ لَوْ قَالَ: أَوْدَعَنِيهَا أَحَدُكُمَا، وَلَا أَدْرِي أَيُّكُمَا، فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَخْذِهَا بَيْنَهُمَا فَلَهُمَا ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَإِلَّا فَإِنْ ادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ أَخْذَهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَلِكُلٍّ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ قَطَعَ دَعْوَاهُمَا، وَإِنْ نَكَلَ فَكَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْأَلْفُ لِهَذَا وَلِهَذَا.
وَفِي التَّنْوِيرِ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا، وَقَالَ: ادْفَعْهَا الْيَوْمَ إلَى فُلَانٍ فَلَمْ يَدْفَعْهَا حَتَّى ضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: احْمِلْ إلَيَّ الْوَدِيعَةَ فَقَالَ: افْعَلْ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ قَالَ لِلْمُودَعِ: ادْفَعْ الْوَدِيعَةَ إلَى فُلَانٍ فَقَالَ: دَفَعْت، وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ وَضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ صُدِّقَ الْمُودَعُ مَعَ يَمِينِهِ قَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ لَا يَضْمَنُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا لَوْ قَالَ: ذَهَبَتْ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ.
وَفِي الْمِنَحِ قَالَ: لَا أَدْرِي دُفِنَتْ فِي دَارِي أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَضْمَنُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَكَانَ الدَّفْنِ لَكِنَّهُ سُرِقَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ الْمَكَانِ الْمَدْفُونِ فِيهِ لَا يَضْمَنُ.
وَفِي الْعُدَّةِ إذَا دَفَنَ الْوَدِيعَةَ فِي الْأَرْضِ إنْ جَعَلَ هُنَاكَ عَلَامَةً لَا يَضْمَنُ وَإِلَّا ضَمِنَ وَفِي الْمَفَازَةِ يَضْمَنُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَاب الْعَارِيَّةِ:

أَخَّرَهَا عَنْ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكًا، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْأَمَانَةِ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْأَعْيَانِ وَمُسْتَعْمَلَةٌ فِي تِلْكَ الْمَنَافِعِ وَرَدَّهُ الْمُطَرِّزِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْمُشْتَقَّاتِ اسْتَعَارَهُ مِنْهُ فَأَعَارَهُ وَاسْتَعَارَهُ الشَّيْءَ عَلَى حَذْفِ مِنْ وَقِيلَ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَيْبٌ وَعَارٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَوْهَرُ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَرَدَّ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْعَارَ يَائِيٌّ وَالْعَارِيَّةَ وَاوِيَّةٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا أَنْفُسُهُمْ بِهِ.
وَفِي الْمُغْرِبِ أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارَةِ اسْمٌ مِنْ الْإِعَارَةِ.
وَفِي النِّهَايَةِ إنَّ مَا فِي الْمُغْرِبِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاشَرَ الِاسْتِعَارَةَ فَلَوْ كَانَ الْعَارُ فِي طَلَبِهَا لَمَا بَاشَرَهَا، وَقِيلَ هِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ بِلَا نِسْبَةٍ كَالدُّرْدِيِّ وَالْكُرْسِيِّ، وَهِيَ مِنْ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّنَاوُبُ بِلَا تَشْدِيدٍ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً، وَلِنَفْسِهِ نَوْبَةً، وَقِيلَ هِيَ اسْمُ الْعَيْنِ الْمُعَارِ، وَشَرِيعَةً (هِيَ) أَيْ الْعَارِيَّةُ بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ لِلْعَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِمَا أُعِيرَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ حَمْلُ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِ (تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ) مِنْ عَيْنٍ مَعَ بَقَائِهَا احْتِرَازٌ عَنْ قَرْضِ نَحْوِ الدَّرَاهِمِ، وَعَنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ (بِلَا بَدَلٍ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، وَتَبْطُلُ بِالنَّهْيِ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَبْطُلُ بِهِ كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ مَلَكَ الْمَنَافِعَ مَلَكَ إجَارَتَهَا، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ الْجَهْلِ بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ إذْ فِيهَا لَا يُشْتَرَطُ ضَرْبُ الْمُدَّةِ، وَلَنَا أَنَّ الْعَارِيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْعَرِيَّةِ هِيَ الْعَطِيَّةُ مِنْ الثِّمَارِ؛ وَلِذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ بِلَا عِوَضٍ كَانْعِقَادِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّهْيُ لَيْسَ إبْطَالًا لِلْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بَلْ يَمْنَعُ عَنْ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَالِاسْتِرْدَادِ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ بِالْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَ الْمُسْتَعِيرَ الْمَنَافِعَ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ، فَلَوْ مَلَكَ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُعِيرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَهْلُ فِيهَا لَيْسَ بِمُضِرٍّ لِعَدَمِ الْإِفْضَاءِ إلَى النِّزَاعِ لِجَوَازِ رُجُوعِ الْمُعِيرِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ، وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلتَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ بِضَرْبِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا مُسْتَحَبَّةً، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ أَوْ وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْبُعْدِ.
وَشَرْطُهَا قَابِلِيَّةُ الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا، وَسَبَبُهَا مَا مَرَّ مِنْ التَّعَاضُدِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ الْمَدَنِيُّ بِالطَّبْعِ، وَمَحَاسِنُهَا النِّيَابَةُ عَنْ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي إجَابَةِ الْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ كَالْقَرْضِ فَلِهَذَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَرْضَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ (وَلَا تَكُونُ) الْعَارِيَّةُ (إلَّا فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِعَارَةَ نَوْعَانِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَالْحَقِيقَةُ: إعَارَةُ الْأَعْيَانِ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ، وَالْمَجَازُ إعَارَةُ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَتَكُونُ إعَارَةً صُورَةً وَقَرْضًا مَعْنًى، وَعَنْ هَذَا قَالَ (وَإِعَارَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ)؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا إنَّمَا يُمْكِنُ بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى إعَارَتَهَا تَمْلِيكُهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْهِبَةِ أَوْ الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ أَدْنَى ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ (إلَّا إذَا عَيَّنَ انْتِفَاعًا يُمْكِنُ رَدُّ الْعَيْنِ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ لِيُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا صَارَتْ عَارِيَّةً لَا قَرْضًا.
(وَتَصِحُّ) الْعَارِيَّةُ (بِأَعَرْتُكَ) أَيْ جَعَلْتهَا عَارِيَّةً لَك لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهَا لَكِنْ فِي الْمُضْمَرَاتِ أَنَّ أَرْكَانَهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَشَرْطَهَا الْقَبْضُ (وَمَنَحْتُك) هَذَا الثَّوْبَ بِمَعْنَى أَعْطَيْتُك؛ لِأَنَّ هَذَا إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ إذًا أَصْلُهُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ لِآخَرَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ يَرُدُّهُ فَرُوعِيَ أَصْلُهُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ هِبَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ (وَأَطْعَمْتُك أَرْضِي) هَذِهِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا قَارَنَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ كَالْبُرِّ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ عَيْنِهِ، وَإِذَا قَارَنَ إلَى مَا لَا يُطْعَمُ كَالْأَرْضِ يُرَادُ بِهِ أَخْذُ غَلَّتِهَا إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ (وَحَمَلْتُك عَلَى دَابَّتِي) هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: حَمَلَ فُلَانٌ فُلَانًا دَابَّتَهُ إذَا أَعَارَهُ إيَّاهَا، وَإِذَا وَهَبَهُ إيَّاهَا، فَإِذَا نَوَى أَحَدُهُمَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَنْوِ حُمِلَ عَلَى الْأَدْنَى لِئَلَّا يَلْزَمَ الْأَعْلَى بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَكَانَ عَارِيَّةً.
وَفِي الدُّرَرِ وَشَرْحِ الْمَجْمَعِ كَلَامٌ تَتَبَّعْ (وَأَخْدَمْتُك عَبْدِي)؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْدَامِ، وَهُوَ الْعَارِيَّةُ (إذَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ) أَيْ بِكُلٍّ مِنْ الْإِطْعَامِ وَالْحَمْلِ وَالْإِخْدَامِ (الْهِبَةَ) فَإِذَا نَوَى أَحَدَهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حُمِلَ عَلَى الْأَدْنَى كَمَا مَرَّ (وَدَارِي لَك سُكْنَى) أَيْ مِنْ جِهَةِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ دَارِي مُبْتَدَأٌ وَلَك خَبَرُهُ وَسُكْنَى تَمْيِيزٌ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَك يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَوْلُهُ: سُكْنَى مُحْكِمٌ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ مُعَيِّنٌ لِلثَّانِي بِحُكْمِ التَّفْسِيرِ فَيَكُونُ عَارِيَّةً (أَوْ) دَارِي لَك (عُمْرِي سُكْنَى) فَعُمْرِي مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْمَرْتُهَا لَك عُمْرِي وَالْعُمْرَى جَعْلُ الدَّارِ لِأَحَدٍ مُدَّةَ عُمْرِهِ وَسُكْنَى تَمْيِيزٌ وَتَخْصِيصٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَارِيَّةِ.
(وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) أَيْ فِي الْعَارِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ الْمُقَيَّدَةِ (مَتَى شَاءَ) لِعَدَمِ لُزُومِهَا هَذَا إذَا لَمْ يَنْقَلِبْ إجَارَةً وَإِلَّا فَلَا يَرْجِعُ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ أَمَةً لِتُرْضِعَ ابْنَهُ فَأَرْضَعَتْهُ فَلَمَّا صَارَ الصَّبِيُّ لَا يَأْخُذُ ثَدْيَ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ خَادِمَتِهِ إلَى أَنْ يُفْطَمَ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ فَأَعَارَهُ إيَّاهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ أَخْذَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَقِيَهُ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكِرَاءِ أَوْ الشِّرَاءِ كَانَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ لَا يَدْفَعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ بَيِّنٌ، وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَجْرُ مِثْلِ الْفَرَسِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَبَ صَاحِبُهُ إلَى أَدْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِدُ فِيهِ كِرَاءً أَوْ شِرَاءً.
(وَلَوْ هَلَكَتْ) الْعَارِيَّةُ (بِلَا تَعَدٍّ) مِنْ الْمُسْتَعِيرِ (فَلَا ضَمَانَ)، وَلَوْ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْمُحِيطِ وَفِي التَّبْيِينِ.
وَالْعَارِيَّةُ إذَا اشْتَرَطَ فِيهَا الضَّمَانَ يَضْمَنُ عِنْدَنَا فِي رِوَايَةٍ، وَصَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ جَزَمَ بِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَةٍ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ أَعِرْنِي هَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ ضَاعَ فَأَنَا ضَامِنٌ وَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ انْتَهَى، وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلْغَيْرِ، فَإِنْ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا ضَمِنَهَا وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعِيرَ، وَإِذَا ضَمَّنَهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَا يَمْلِكُ وَالِدُ الصَّغِيرِ إعَارَةَ مَالِ وَلَدِهِ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَ، وَالْمَرْأَةُ إذَا أَعَارَتْ شَيْئًا مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ فَهَلَكَ إنْ كَانَ شَيْئًا دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَمَا يَكُونُ فِي أَيْدِيهِنَّ عَادَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ أَمَّا فِي الْفَرَسِ وَالثَّوْرِ فَيَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ الْمَرْأَةُ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ»؛ وَلِأَنَّهُ قَبَضَ لِنَفْسِهِ فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ»، وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ هَلَكَتْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لَا، وَمَا رَوَيَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الرَّدِّ.
(وَلَا تُؤَجَّرُ) الْعَارِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الْإِجَارَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ فَوْقَهُ (وَلَا تُرْهَنُ)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يُودِعَ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَهُ كَمَا فِي الْمِنَحِ (كَالْوَدِيعَةِ) أَيْ كَمَا لَا تُؤَجَّرُ وَلَا تُرْهَنُ الْوَدِيعَةُ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا (فَإِنْ آجَرَهَا) أَيْ آجَرَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ (فَتَلِفَتْ) أَيْ هَلَكَتْ الْعَارِيَّةُ (ضَمَّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ) أَيْ الْمُعِيرُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ يُضَمِّنُ الْمُسْتَعِيرَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِتَعَدِّيهِ أَوْ يُضَمِّنُ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَ الْمُعِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ (فَإِنْ ضَمَّنَ) أَيْ الْمُعِيرُ (الْمُؤَجَّرَ) أَيْ الْمُسْتَعِيرَ (لَا يَرْجِعُ) بِمَا غَرِمَهُ (عَلَى أَحَدٍ)؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَجَّرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ (وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ رَجَعَ عَلَى الْمُؤَجَّرِ) أَيْ الْمُسْتَعِيرِ (إنْ لَمْ يَعْلَمْ) الْمُسْتَأْجِرُ (أَنَّهُ) أَيْ أَنَّ مَا اسْتَأْجَرَهُ (عَارِيَّةٌ) عِنْدَ مُؤَجَّرِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ لِكَوْنِهِ مَغْرُورًا مِنْ مُؤَجِّرِهِ قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَلِمَ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجِّرَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ غُرُورٌ وَصَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْغَصْبِ.
(وَلَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَعِيرِ (أَنْ يُعِيرَ) مَا اسْتَعَارَهُ إنْ كَانَ (مَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ) وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ، وَإِنْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَنْتَفِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ غَيْرُ مُفِيدٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُ فَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا غَيْرُهُ، وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَهَا كَمَا مَرَّ (لَا مَا يَخْتَلِفُ) بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ (كَالرُّكُوبِ) أَيْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ (إنْ عَيَّنَ) الْمُعِيرُ (مُسْتَعْمِلًا)؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَكُونُ كَرُكُوبِ السُّوقِيِّ، وَلُبْسَ الْقَصَّابِ لَيْسَ كَلُبْسِ الْبَزَّازِ.
(وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ) الْمُعِيرُ مُسْتَعْمِلًا (جَازَ أَيْضًا) كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ مَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً حِينَئِذٍ (مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ) الْمُنْتَفِعُ بِفِعْلِ الْمُسْتَعِيرِ (فَإِنْ تَعَيَّنَ) الْمُنْتَفِعُ بِفِعْلِهِ (لَا يَجُوزُ) لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ، وَفَرَّعَهُ بِقَوْلِهِ (فَلَوْ رَكِبَ هُوَ) أَيْ الْمُسْتَعِيرُ (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَعِيرِ (إرْكَابُ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَرْكَبَ) الْمُسْتَعِيرُ (غَيْرَهُ) فَ (لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ هُوَ) يَعْنِي مَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً مُطْلَقًا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ أَوْ يُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ وَيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُرَكِّبَ غَيْرَهُ وَأَيًّا فَعَلَ مِنْ الْحَمْلِ أَوْ حَمْلِ الْغَيْرِ مِنْ الرُّكُوبِ أَوْ الْإِرْكَابِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْعَمَلُ فَلَيْسَ بَعْدَ حَمْلِهِ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ، وَلَا عَكْسُ هَذَا وَإِلَّا ضَمِنَ، وَكَذَا حُكْمُ الْإِرْكَابِ بَعْدَ الرُّكُوبِ وَعَكْسِهِ لِتَعَيُّنِ الرُّكُوبِ فِي الْأَوَّلِ وَالْإِرْكَابِ فِي الثَّانِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ بَعْدَ الْإِرْكَابِ وَيَرْكَبَ بَعْدَ الرُّكُوبِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْعِنَايَةِ.
(وَإِنْ قُيِّدَتْ) الْإِعَارَةُ (بِنَوْعٍ أَوْ وَقْتٍ) أَيْ قَيَّدَ الْمُعِيرُ الْعَارِيَّةَ بِنَوْعٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَنْ شَرَطَ أَنْ يَنْتَفِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ فُلَانٌ مُعَيَّنٌ أَوْ قَيَّدَهَا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِشَهْرٍ أَوْ جُمُعَةٍ مَثَلًا (أَوْ بِهِمَا) أَيْ قَيَّدَهَا بِالنَّوْعِ وَالْوَقْتِ جَمِيعًا (ضَمِنَ) الْمُسْتَعِيرُ (بِالْخِلَافِ) فِي وَاحِدٍ مِنْهَا (إلَى شَهْرٍ فَقَطْ) فَلَمْ يَضْمَنْ بِالْخِلَافِ إلَى مِثْلٍ أَوْ خَيْرٍ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ: احْمِلْ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ هَذِهِ الْحِنْطَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا أَوْ دُونَهَا فِي الضَّرَرِ كَحَمْلِ مِثْلِ الْحِنْطَةِ شَعِيرًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالشَّيْءِ إذْنٌ بِمَا يُسَاوِيهِ، وَبِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ، فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: احْمِلْ عَلَيْهَا عَشْرَةَ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشْرَةَ أَقْفِزَةِ بُرٍّ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْضَ بِالشَّيْءِ الثَّقِيلِ فَيَضْمَنُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي.
(وَإِنْ أَطْلَقَ) الْمُعِيرُ الِانْتِفَاعَ (فِيهِمَا) أَيْ فِي النَّوْعِ وَالْوَقْتِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَعِيرِ (الِانْتِفَاعُ بِأَيِّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إيدَاعِ الْمُسْتَعِيرِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْكَرْخِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ وَأَبُو اللَّيْثِ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَبُرْهَانُ الْأَئِمَّةِ قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَفِي الْمِنَحِ وَجَعَلَ الْفَتْوَى فِي السِّرَاجِيَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ فِي الصَّيْرَفِيَّةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُودَعُ أَوَّلًا تُودَعُ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ تَمَلَّكَ الْإِعَارَةَ، أَمَّا فِيمَا لَا يَمْلِكُهَا فَلَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ.
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيمَا حَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَفِي مَسَافَةِ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أَوْ فِي الْوَقْتِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْمُعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ.
(وَتَصِحُّ إعَارَةُ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) أَيْ غَرْسِ الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا مَعْلُومَةٌ، وَتَجُوزُ إجَارَتُهَا فَكَذَا إعَارَتُهَا بَلْ أَوْلَى لِكَوْنِهَا تَبَرُّعًا (وَلَهُ) أَيْ لِلْمُعِيرِ (أَنْ يَرْجِعَ) عَنْ الْعَارِيَّةِ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَرَسَ (مَتَى شَاءَ)؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ (وَيُكَلِّفُهُ) أَيْ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ (قَلْعَهُمَا) أَيْ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ أَرْضَ الْمُعِيرِ بِهِمَا فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ إلَّا إذَا شَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِقِيمَتِهِمَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ تَسْتَضِرُّ بِالْقَلْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَا تَسْتَضِرُّ بِالْقَلْعِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّرْكُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا كَمَا فِي التَّبْيِينِ (وَلَا يَضْمَنُ) الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ بِسَبَبِ الْقَلْعِ (إنْ لَمْ يُوَقِّتْ) الْعَارِيَّةَ إذْ الْمُسْتَعِيرُ بَنَى وَغَرَسَ فِي مَحَلٍّ كَانَ لِغَيْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ فَاعْتَرَفَ بِنَفْسِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْ الْمُعِيرِ وَعْدٌ.
(وَإِنْ وَقَّتَ) الْمُعِيرُ وَقْتًا مُعَيَّنًا (وَرَجَعَ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ (كُرِهَ لَهُ) أَيْ لِلْمُعِيرِ (ذَلِكَ) الرُّجُوعُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ (وَضَمِنَ) الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ (مَا نَقَصَ) مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ (بِالْقَلْعِ) بِأَنْ يَقُومَ قَائِمًا غَيْرَ مَقْلُوعٍ يَعْنِي إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ إلَى وَقْتِ الْمَضْرُوبِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا، وَإِذَا قَلَعَ فِي الْحَالِ يَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ يَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الْمُعِيرِ بِثَمَانِيَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ غَرَّهُ بِالتَّوْقِيتِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ وَالْإِطْلَاقَ فِيهَا سَوَاءٌ لِبُطْلَانِ التَّأْجِيلِ فِي الْعَوَارِيِّ (وَقِيلَ يَضْمَنُ) الْمُعِيرُ (قِيمَتَهُ) أَيْ قِيمَةَ الْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ (وَيَتَمَلَّكُهُ) أَيْ الْمُعِيرُ الْبِنَاءَ أَوْ الْغَرْسَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا، وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قَالُوا: إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ (وَلِلْمُسْتَعِيرِ قَلْعُهُ) أَيْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ (بِلَا تَضْمِينٍ إنْ لَمْ تَنْقُصْ الْأَرْضُ بِهِ) أَيْ بِالْقَلْعِ (كَثِيرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ عِنْدَ نُقْصَانِ الْأَرْضِ كَثِيرًا بِالْقَلْعِ (الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ) بَيْنَ ضَمَانِ نُقْصَانِهِمَا وَضَمَانِ قِيمَتِهِمَا لَا لِلْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَفِي الْمُحِيطِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ غَيْرَ مَقْلُوعَةٍ مَنْقُوضَةٍ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ قَلَعَ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ وَلَا يَضْمَنُهُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْقَلْعُ يَضُرُّ بِالْأَرْضِ لَا يَقْلَعُ إلَّا بِرِضَى صَاحِبِهَا، وَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا انْتَهَى، وَظَاهِرُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ الْقَلْعَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْأَرْضِ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَعِيرِ بَيْنَ قَلْعِهِ، وَبَيْنَ تَضْمِينِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْكَنْزِ حَيْثُ جَعَلَا لَهُ تَضْمِينَ مَا نَقَصَهُ الْقَلْعُ لَا تَضْمِينَ جَمِيعِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَإِنْ أَعَارَهَا) أَيْ الْأَرْضَ (لِلزَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ التَّضْرِيرَ بِالْمُؤَمَّنِ حَرَامٌ (حَتَّى يَحْصُدَ) الزَّرْعَ بَلْ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ كَيْ لَا تَفُوتَ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ مَجَّانًا (وَقَّتَ) الْمُعِيرُ (أَمْ لَا) يُوَقِّتُ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَكَانَ فِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، وَأَيْضًا فِي الْقَلْعِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، وَفِي التَّرْكِ تَأْخِيرُ حَقِّ تَصَرُّفِ الْمُعِيرِ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ ضَرَرًا فَيَصِيرُ إلَى الثَّانِي.
(وَأُجْرَةُ رَدِّ الْمُسْتَعَارِ، وَ) أُجْرَةُ رَدِّ (الْمُسْتَأْجَرِ الْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ وَالْمَغْصُوبِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُؤَجَّرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْغَاصِبِ) أَمَّا الْمُسْتَعَارُ فَلِأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَارِيَّةَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَتَكُونُ أُجْرَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُؤَجِّرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ سُلِّمَ لَهُ فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فَتَكُونُ مُؤْنَةُ رَدِّهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ حِفْظِهَا عَائِدَةٌ لَهُ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَكَانَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَغْصُوبُ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ إلَى يَدِ مَالِكِهَا كَمَا كَانَتْ فَتَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهَا.
وَفِي عُمْدَةِ الْفَتَاوَى نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَكِسْوَتُهُ عَلَى الْمُعِيرِ.
(وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ) الْمُسْتَعَارَةَ (إلَى إصْطَبْلِ رَبِّهَا) أَيْ صَاحِبِ الدَّابَّةِ (أَوْ) رَدَّ (الْعَبْدَ) الْمُسْتَعَارَ (أَوْ الثَّوْبَ) الْمُسْتَعَارَ (إلَى دَارِ مَالِكِهِ بَرِئَ) عَنْ الضَّمَانِ إذَا هَلَكَتْ الدَّابَّةُ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ أَوْ الثَّوْبُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُمْ إلَى أَصْحَابِهِمْ، وَإِنَّمَا ضَيَّعَهُمْ تَضْيِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَتَى بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ)، فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ إلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ فِيهَا فَلَا تَكُونُ إزَالَتُهَا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْمُودِعُ فَلَا يَبْرَأُ أَيْضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ إلَى مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهَا لِلْحِفْظِ وَلَمْ يَرْضَ بِحِفْظِ غَيْرِهِ إذْ لَوْ رَضِيَ بِهِ لَمَا أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ.
(وَإِنْ رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ مُشَاهَرَةً أَوْ مُسَانَهَةً بَرِئَ) إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِيَالِ الْمُسْتَعِيرِ وَلَهُ رَدُّهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ.
(وَكَذَا إنْ رَدَّهَا) أَيْ الدَّابَّةَ (مِنْ أَجِيرِ رَبِّهَا) أَيْ رَبِّ الدَّابَّةِ مُشَاهَرَةً أَوْ مُسَانَهَةً (أَوْ) مَعَ (عَبْدِهِ) أَيْ رَبِّ الدَّابَّةِ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ إذَا هَلَكَتْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا هَذَا فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى يَدِ صَاحِبِهَا كَمَا فِي الشُّمُنِّيِّ (يَقُومُ) حَالٌ مِنْ أَجِيرٍ لَا صِفَةُ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ نَكِرَةٌ (عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ لَا) يَقُومُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ دَائِمًا إلَّا أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ رِضَى الْمَالِكِ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ مَوْجُودًا (بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً)، فَإِنَّهُ إذَا رَدَّهَا مَعَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الْعِيَالِ فَلَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِهِ فَيَضْمَنُ إنْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْوُصُولِ.
(وَ) بِخِلَافِ (رَدِّ شَيْءٍ نَفِيسٍ) كَعُقَدِ اللَّآلِئِ (إلَى دَارِ مَالِكِهِ)، فَإِنَّهُ إنْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَلْزَمُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ تَسْلِيمًا فِي الْعُرْفِ.
(وَيَكْتُبُ مُسْتَعِيرُ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ قَدْ أَطْعَمْتنِي أَرْضَكَ لَا أَعَرْتَنِي) أَيْ إذَا أُعِيرَتْ الْأَرْضُ لِلزِّرَاعَةِ وَأَرَادَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يَكْتُبُ إنَّك قَدْ أَطْعَمْتَنِي أَرْضَك وَلَا يَكْتُبُ قَدْ أَعَرْتَنِي عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْأَرْضِ لَا يُطْعَمُ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يُحَصَّلُ مِنْهَا بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِلْبِنَاءِ (خِلَافًا لَهُمَا)، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يَكْتُبُ الْإِعَارَةَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْعَقْدِ، وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ أَوْلَى، وَإِذَا أُعِيرَتْ الْأَرْضُ سُكْنَى لَا لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ إنَّك أَعَرْتَنِي أَرْضَك بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي التَّنْوِيرِ ادَّعَى إيصَالَ الْأَمَانَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا قَبْلَ قَوْلِهِ كَالْمُودَعِ ادَّعَى الرَّدَّ وَالْوَكِيلِ وَالنَّاظِرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَيَاةِ مُسْتَحِقِّهَا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَنَّهُ قَبَّضَهُ وَدَفَعَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ.